هل سمعت عن التوقيت الغروبي ؟
التوقيت الغروبي
يعد المسلمون غروب الشمس نهاية اليوم والليلة لاعتمادهم النظام القمري في حساب الشهور والسنين وبهذا فإن الشهر الهجري القمري يبدأ بمغيب شمس آخر يوم قبله، لا بعد الساعة الثانية عشرة صباحًا،
استنادًا إلى قول المولى عزَّ وجلَّ في كتابه العزيز ﴿هُوَ الَّذي جَعَلَ الشَّمسَ ضِياءً وَالقَمَرَ نورًا وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعلَموا عَدَدَ السِّنينَ وَالحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلّا بِالحَقِّ يُفَصِّلُ الآياتِ لِقَومٍ يَعلَمونَ﴾ [يونس:٥] ولذلك نرى صلاةَ القيامِ في رمضان تبدأ بعد صلاة العشاء من بعد مغيب شمس آخر أيام شعبان إيذانًا بدخول الشهر الفضيل، وكذلك نرى أحكام المُضحِّينِ، كالامتناع عن أخذ الشعر والأظافر تبدأ من بعد مغيب شمس آخر أيام ذي القعدة إيذانًا ببداية عشر ذي الحجة، وإذا ما وضعنا هذا في الحسبان، فإنه سيبدو من المنطقي أن تبدأ الساعة عند من يعتمد هذا النظام من دخول اليوم، كما هو الحال في التوقيت الزوالي، إذ يبدأ اليوم من بعد منتصف الليل الذي يقابل منتصف النهار وقتَ زوال الشمس، وبذلك تكون الساعة في التوقيت الغروبي في تمام الثانية عشرة ٠٠:٠٠ عند غروب الشمس لا عند منتصف الليل.
لذلك اذا قال لك أحدهم بأن أذان العشاء سيكون في الساعة الواحدة وثلاثين دقيقة، فلا تسارع بالضحك، فليس بالضرورة أنه يمزح معك، بل قد يكون من أولئك القلائل الذين لا يزالون يستخدم التوقيت الغروبي
وفي الواقع، كان هذا التوقيت هو التوقيت المعمول به حتى وقت قريب، قبل أن يطغى التوقيت الزوالي المعمول به في الدول الغربية على الدول الإسلامية مع الكثير من الأمور الأخرى، وعلى سبيل المثال، ظلَّ العمل بالتوقيت الغروبي (أو العربي كما كان يُسمى) في السعودية حتى أواخر ثمانينيات القرن الهجري الماضي، وفي نهاية عام ١٣٨٨ للهجرة، اعتمد تقويم أم القرى، الذي تعتمد الدولة عليه رسميًّا، التوقيت الزواليّ المعمول به حاليًّا في العالم أجمع وإذا ما زرت المدينة النبوية الشريفة، ولحظت بعض الساعات التي تختلف تمامًا عن المعتاد، فانظر إلى اللوحة التي تعلوها فسترى أن هذه الساعة تتبع التوقيت الغروبي، ولا تزال تلك الساعات موجودة هناك حتى يومنا هذا.
التوقيت العربي
وبالإضافة إلى مجرّد بداية التوقيت مع بداية اليوم، أي بمغيب الشمس، فإن العرب كان لهم تقسيم خاص للوقت، فكان لديهم اثنتا عشرة ساعة للنهار ومثلها للّيل، ولذا، فإن هذه الساعات كانت تتأثر بطول الليل والنهار، فتطول ساعات النهار في الصيف، وساعات الليل في الشتاء، والعكس بالعكس، ولذلك يقول المصطفى ﷺ: "يومُ الجمعةِ اثنتا عشرةَ ساعةً ، لا يوجَدُ عبدٌ مسلمٌ يسألُ اللَّهَ عز وجل شيئًا إلَّا آتاهُ إيَّاهُ ، فالتمِسوها آخرَ ساعةٍ بَعدَ العصرِ"فكانت عُدّةُ ساعات اليوم ثابتةً لا تتغير، وإنما تتغير أطوالها.
وهذه الساعات لم تكن مرقّمةً وحسب، بل كان لها أسماء، وعدّ ابن خالويه ساعات الليل وحدها فقال: "ولساعات الليل مئة وخمسة وثلاثون اسمًا! قد أفردنا لها كتابًا، نحو هزيعٍ من الليل، وطبيقٍ من الليل، وبنكٍ من الليل، وطبقٍ من الليل، وناشئة" ، وذكر الثعالبي أسماء ساعات النهار والليل في فقه اللغة عن حمزة بن الحسن الأصفهاني قائلًا: "وعليه عُهدتُها: الشروق، ثم البكور، ثم الغدوة، ثم الضحىٰ، ثم الهاجرة، ثم الظهيرة، ثم الرواح، ثم العصر، ثم القَصْر، ثم الأصيل، ثم العشيّ، ثم الغروب" وأما ساعات الليل: "الشفق، ثم الغسق، ثم العتمة، ثم السُّدْفَة، ثم الفَحمَة، ثُم الزُّلَّة، ثم الزُّلْفَة، ثم البُهْرَة، ثم السَّحَر، ثُمّ الفجر، ثم الصُّبح، ثم الصّباح"
وعلى سبيل المثال، فبعض ما ورد في هذه الأسماء كالبكور والغدوة والهاجرة والأصيل من ساعات النهار قد ورد في القرآن وبعض الأحاديث كقوله ﷺ "بورك لأمتي في بكورها"وقوله تعالى: ﴿في بُيوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرفَعَ وَيُذكَرَ فيهَا اسمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فيها بِالغُدُوِّ وَالآصالِ﴾ [النور:٣٦]، وقول ابن عمر رضي الله عنه: "أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دفَع من منًى حين صلَّى الصُّبحَ صبيحةَ يومِ عرفةَ حتَّى أتَى عرفةَ فنزل بنمِرةَ وهو منزِلُ الإمامِ الَّذي ينزِلُ به بعرفةَ، حتَّى إذا كان عند صلاةِ الظُّهرِ راح رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم مهجِّرًا ، فجمع بين الظُّهرِ والعصرِ"وعنى رضي الله عنه بـ"مهجّرًا" أنه ﷺ راح وقت الهاجرة.
كما أن الساعة لم تكن تقسم إلى الدقائق المعروفة كما في تقسيمنا الحالي، بل كان للعرب تقسيمات أخرى، فقد كانوا يستخدمون الدرجة الفلكية في حسابهم لتقسيم الساعة، وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله ذلك في مجموع الفتاوى حيث قال: "بين ابتداء العمارة من المشرق، ومنتهاها من المغرب مقدار مئة وثمانين درجة فلكية، وكل خمس عشرة درجة فهي ساعة معتدلة، والساعة المعتدلة هي ساعة من اثنتي عشرة ساعة بالليل أو النهار إذا كان الليل والنهار متساويان" وقد تكون تسمياتنا الحالية للدقائق والثواني مستعارةً من نظيراتها في الفلك، ففي تقسيم الدرجات الفلكية يقول ابن الكلنبوي في رسائله "وهذه الأجزاء تسمّى أيضًا "درجًا" وكل درجة منها تنقسم إلى ستين قسمًا تسمى "الدقائق" وكل دقيقة منها تنقسم إلى ستين قسمًا أيضًا تسمى "الثواني" وكل ستين منها تنقسم إلى ستين "ثالثة" وما بعد ذلك" وبذلك يكون مقدار اليوم والليلة يساوي ثلاثمئة وستين جزءًا أو درجًا كما ذكر لاحقًا وهذا يوافق ما ذكره ابن تيمية عن طول اليوم المعتدل.
وبذلك تكون الدرجة التي ذكرها ابن تيمية وابن الكلنبوي في الساعة المعتدلة أربعة دقائق في حسابنا وتزيد أو تنقص بطبيعة الحال ما بين الصيف والشتاء. وتقسيم الساعة إلى خمسة عشر جزءًا ينبي باهتمام المسلمين بالوقت، وهذا الاهتمام منبعه ارتباط الوقت بالصلاة، ولأن الاهتمام بالصلاة سيظل قائمًا ما بقي الإسلام، فإن هذا الاهتمام بالوقت سيظل قائمًا بدوره، ولذلك فإن تقسيماتنا الحالية للوقت لا تختلف كثيرًا عن السابق، ففي أنحاءَ مختلفةٍ من العالم العربي تستخدم أجزاء الساعة للإخبار عن الوقت، فيقال الساعة كذا حُكم، أو كذا وخمس، وعشر، وربع، وثلث، وثلث وخمس، ونصف، ونصف وخمس، إلا ثلث... إلى آخره. فتقسم الساعة الواحدة بذلك إلى اثني عشر جزءًا، كل جزء خمس دقائق، وهذا التقسيم قد يكون مرتبطًا بتصميم الساعات الحديثة القائم على اثنتي عشرة ساعة. وعلى كلٍّ، فإننا نعرف أن المسلمين والعرب القدماء كانوا على اهتمام بالغٍ بالوقت خلاف ما قد يظنه البعض.
وفي اهتمامهم بالساعات دلالة على ذلك، ويكفينا هنا الاستدلال بالساعات المشهورة في التاريخ الإسلامي كساعة الفيل التي صممها ابن الجزري، وساعة باب جيرون المائية بالجامع الأموي والتي وصفها ابن جبير الرحالة الأندلسي وصفًا دقيقًا في كتابه وأدرج الدكتور محمد أحمد دهمان رسمًا لها في كتابه في رحاب دمشق
محاسن التوقيت العربي والغروبي وعيوبهما
بعد استعراض ما مضى، فإنه لدينا توقيتان، التوقيت الغروبي (الذي يبدأ عند الغروب بساعةٍ بطولٍ ثابت)، والتوقيت العربي (الذي يعتمد اثنتي عشرة ساعة للنهار ومثلها للَّيل بأطوال ساعات متغيّرة حسب الفصل)، وكلاهما يبدأ مع مغيب الشمس، أما الأول فهو مفيد في استخدام الأوقات المرتبطة باليوم العربي، وهو أضبط مع بداية اليوم، وبذلك يزول اللَّبس الذي يحصل لبعض الناس بسبب استخدامهم الوقت الزوالي مع الأيام العربية كالذي يحدث في دعوات الزفاف المسائية إذ تكون الدعوة بصيغة مشابهة لـ "يوم الخميس الساعة ٩ مساءً ليلة الجمعة"، كما أن وقت صلاتي المغرب والعشاء فيه ثابت طوال العام (١٢:٠٠-١:٣٠)، أما التوقيت الثاني فهو مفيد مثلًا في أوقات الدوام الرسمية، فحين تضبط مثلًا أوقات الدوام بعد الساعة الثانية صباحًا (أي ثاني ساعة بعد الشروق)، فلا يعود لنا حاجة إلى تغييرها بين الصيف والشتاء، إذ تتزامن هذه الساعة دومًا مع موقع الشمس، صيفًا كان الفصل أو شتاءً، فيقال مثلًا "الدوام أول الغداة"، وإذا كان الوقت يُقسَم على طول النهار فإن ساعات هذا التوقيت تصبح متفقةً مع موقع الشمس، وهذا مفيد في هذا الموضع، إذ لن تكون لنا حاجة إلى تغيير الأوقات بين الصيف والشتاء، ولا بين عام والذي يليه.
لكن ثمة بعض المشكلات بطبيعة الحال، ففي التوقيتين، ستختلف الساعة وتتباين بشدة بين الأماكن، فالتوقيت سيتغيَّرُ مع الغروب وهذا قد يتسبب ببعض المشاكل في الدول مترامية الأطراف، والتي قد يعتمد الموظفون فيها على التواصل بين بعضهم البعض، ومع التوقيت الغروبي سينتهي دوام هؤلاء قبل أولئك، ويبدأ دوام أولئك بعد هؤلاء، مما قد يتسبب ببعض المشاكل أحيانًا لتقليله الوقت المشترك بينهم. كما أن التوقيت العربي قد يكون مشكلًا في مسائل العمل والدراسة بالذات، فالساعة الصيفية لن تكون كالشتوية، وبالمحصلة، فإن الموظفين سيعملون مُدَدًا أطول في الصيف، وهذا قد يكون ذا تأثير شديد، لا سيما على أولئك الذين يعملون خارج المباني، ومثل ذلك للطلاب، فإن الحصص والمحاضرات ستزداد طولًا في الصيف عنها في الشتاء. ومن الجدير بالذكر أن أهم سبب دعا إلى ترك التوقيت الغروبي هو تعقيد تعيير الساعات الميكانيكية (ضبط العِيار أو التوقيت) غير أن هذه المشكلة لا تبدو ذات قيمةٍ اليومَ مع انتشار الساعات الإلكترونية التي يمكن برمجتها لتعيّر نفسها يوميًّا، أو حتى ضبطها على التوقيت العربي القديم لتقيس المدة بين الغياب والشروق وتقسمها على اثني عشرة ساعةً بغير أن يسعى أحد لضبطها كل يوم.
وبالمقابل، فقد يقول قائل بأن هذه المشكلات وغيرها ليست مما يستحيل التعامل معه، ففي التوقيت الغروبي، لن يكون ذلك التأثير كبيرًا، وفي أقصى الحالات قد يبلغ الفارق ساعة أو نحوها، ويبقى بقية اليوم كله للتواصل، وبعض الحلول كالبريد الصوتي للطوارئ ومثله قد تكون حلولًا ملموسةً لمثل ذلك، وأما فيما يتعلق بالتوقيت العربي، فالفرق بين الصيف والشتاء قد يستعاض عنه بزيادة معدل الرواتب في الصيف للعاملين، أو تقليل ساعات العمل، وزيادة مدد الحصص والمحاضرات للطلاب في الشتاء بما يتوافق مع التوقيت الصيفي. ولن يكون الطلاب على مقاعد الدراسة معظم الصيف، بل تكون معظم الدراسة بين الخريف والربيع والشتاء، والوقت في ثلثي مدتها معتدل، والفرق في الشتاء حين يقل، وهذا قد يُعوَّض عنه كما أسلفنا.
منقول موقع الباحثون الاسلاميون

.jpg)
إرسال تعليق